في مقولة عميقة تختصر فلسفة السينما بأكملها، يقول المخرج الفرنسي الراحل جان لوك غودار: "عندما تصور المرئي فأنت تصنع التلفزيون، وعندما تصور اللامرئي فأنت تصنع السينما". هذه الكلمات البسيطة في ظاهرها تحمل في طياتها رؤية عميقة لجوهر الفن السابع وما يميزه عن باقي الفنون البصرية.
يرسم غودار في هذه المقولة خطاً فاصلاً بين مفهومين: التصوير المباشر للواقع كما نراه، والتصوير الذي يتجاوز حدود المرئي ليلامس مناطق أعمق في النفس البشرية. فالتلفزيون، في نظره، يكتفي بنقل الواقع المادي المباشر، في حين تذهب السينما إلى ما هو أبعد من ذلك - إلى عوالم المشاعر والأفكار والرموز التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة.
تكمن قوة السينما، وفقاً لغودار، في قدرتها على تجسيد ما لا يُرى. فهي لا تكتفي بتصوير الأحداث والشخصيات، بل تغوص في أعماق النفس البشرية لتكشف عن المخاوف والأحلام والصراعات الداخلية. إنها تلتقط تلك اللحظات العابرة من الصمت، وتعكس الأفكار المجردة في صور مرئية، وتحول المشاعر الداخلية إلى تجربة بصرية ملموسة.
وربما هذا ما جعل غودار نفسه من أبرز المجددين في تاريخ السينما، فأفلامه لم تكن مجرد سرد قصصي تقليدي، بل كانت تجارب بصرية وفكرية تتحدى المألوف وتدفع المشاهد للتفكير والتأمل. فعندما نشاهد أعماله، نجد أنفسنا أمام لغة سينمائية تتجاوز حدود الواقع المرئي لتخلق عالماً خاصاً يمتزج فيه الواقعي بالخيالي، والملموس بالمجرد.
إن مقولة غودار تدعونا للتفكير في جوهر الفن السينمائي وقدرته الفريدة على خلق لغة بصرية تتجاوز حدود المرئي. فالسينما الحقيقية، كما يراها، ليست مجرد تسجيل للواقع، بل هي رحلة استكشاف للعوالم الداخلية للإنسان، وقدرة على تصوير ما لا يمكن تصويره، وتجسيد ما لا يمكن لمسه.