يُعد فيلم "كلب أندلسي" (Un Chien Andalou) الذي عُرض عام 1929 وأخرجه لويس بونويل بالتعاون مع الفنان التشكيلي سلفادور دالي، من أوائل وأهم الأعمال السريالية في تاريخ السينما العالمية. يتجاوز هذا الفيلم القصير، الذي لا تتجاوز مدته 16 دقيقة، كل المعايير التقليدية للقصَة والدراما السينمائية، إذ يُقدم سلسلة من المشاهد الحالمة التي تتحدى المنطق وتسعى لصدم المشاهد وإثارة مخيلته بأقصى وأساليب الرمزية والتحليل النفسي تعقيداً.
افتتاحية الفيلم تُعد من أكثر المشاهد شهرة وإثارة للجدل في تاريخ السينما، إذ نرى رجلاً يشحذ شفرة، يطل عبر نافذته على القمر والسحب، ثم يتجه نحو امرأة ويفتح عينها بيديه ويقطعها بشفرة الحلاقة، في وحشية مدهشة ترمز لانتهاك الرؤية التقليدية للعالم ودعوة إلى اكتشاف الفن بمنظور جديد تماماً. يستمر الفيلم بتنقلات مشهدية لا ترتبط ببعضها منطقياً، تتتابع فيها الصور والاستعارات: بيانو يُجر فوق ظهر حصان ميت، يد تخرج منها النمل، لاعب كرة، وأحداث تتخللها رؤى عن الهوية والجنس والرغبات المكبوتة. كل ذلك يمنح الفيلم طابعاً حلمياً يصعب تفسيره من منظور السرد التقليدي، ويحوّله إلى تمرين أسلوبي وصرخة في وجه البرجوازية والقيم السائدة في أوروبا العشرينات.
تبنى بونويل ودالي من خلال هذا العمل استراتيجية استفزازية متعمَّدة، فالفيلم لم يكن يسعى لإرضاء الجمهور أو تقديم متعة سينمائية مألوفة، بل لخلخلة المتلقي وتحريضه على طرح الأسئلة حول ماهية الفن والواقع والحلم. وفعلاً، حينما عُرض الفيلم لأول مرة أثار جلبة في الأوساط المحافظة، ما دفع بونويل إلى التنقل في شوارع باريس مسلّحاً بالحجارة تخوفاً من ردود فعل عدائية. على الرغم من ذلك، حظي الفيلم باحتفاء رواد الحركة السريالية وعلى رأسهم أندريه بروتون، وصار علامة فارقة في السينما الطليعية، وأدرج في قوائم أهم الأفلام التي يجب مشاهدتها في عمر الإنسان.
"كلب أندلسي" ليس فقط دراسة في اللاوعي الفردي والجمعي، بل أيضاً إعلان عن ميلاد لغة سينمائية جديدة توظف المونتاج والصورة والشحنة الرمزية الصادمة لبناء سينما الأحلام والكوابيس، بعيداً عن التسلسل المنطقي والزمن الكلاسيكي. وبذلك، بقي هذا الفيلم حجر أساس لسينما الطليعة وظاهرة يصعب تكرارها في عالم السينما.