حين تتراءى أمامنا أعمال المخرج الإيراني عباس كياروستمي، قد يعتقد البعض للوهلة الأولى أن سر قوته يكمن في بساطة أسلوبه أو ميله إلى ما يشبه الحد الأدنى بصرياً وسردياً. لكن جوهر سينماه يتجاوز "المينيمالية" النمطية، فهو يمارس فن الحذف، لا من باب النقصان بل كاستراتيجية فنية لكشف ما لا يُرى في العالم.
فيلمه الأول القصير "الخبز والزقاق" (1970) لا تتجاوز مدته العشر دقائق، خالٍ من الحوار تقريباً، يصوّر طفلاً صغيراً يواجه كلباً مخيفاً في حارة ضيقة؛ القصة بسيطة، والصورة واضحة ونظيفة من الزوائد، لكنه تحفة تمثل «أم» باقي أفلام كياروستمي كما وصفها هو نفسه. وبالرغم من أنه قد يبدو للوهلة الأولى مجرد فيلم طفولي، إلا أنه يرسخ منذ بدايته تصوراً سينمائياً فريداً: بطله وحيد، يواجه العالم بخياله وعناده وحدهما، وتُختصر الدراما في حياتية يومية وحس وجودي يتجاوز الفرد نحو الأفق الأسطوري للأشياء.
غير أن النقاد، كما تشير مقالة مجلة MIT Press Reader، كثيراً ما وقعوا في قراءة ظاهرية لسينما كياروستمي، اختزلوها إما في روح إنسانية مبسطة أو انتقدوا تجاهلها للسياسة أو قضايا المجتمع الإيراني، بل وحتى اتهامه بصناعة أفلام "للتصدير" ونظرة سياحية. غير أن الإجابة على هذه التخمينات السطحية تكمن في قراءة معمقة لأفلامه وتحليلها بعيداً عن إسقاط الصور النمطية.
ينبه الناقد يوسف إسحقبور في كتابه (الغير مترجم للأسف) إلى نقطة فاصلة في مسار كياروستمي، وذلك بالمقارنة بين "المسافر" (1974) و"وأين منزل الصديق؟" (1987). فبغضّ النظر عن تشابه بطلي الفيلمين (طفلان عنيدان يسعيان لتحقيق هدف ما عبر دروب الريف الإيراني)، إلا أن بنية العالم في الفيلمين مختلفة جذرياً: في الأول، الأماكن تُمثل فضاءً يُحتوي القصة؛ أما في الثاني، فإن العالم ذاته يتحول إلى "حالة" وجودية تتجاوز مجرد الخلفية. في السينما الغربية، يظل الإنسان مركز الكون، ولكن في سينما كياروستمي، تفاصيل هذا العالم الصغير تخلق أفقاً آخر، "جنة مصغرة" كما يقول إسحقبور، يكون فيها للعالم حضور يفوق الدراما البشرية ذاتها.
داخلياً، يفرّق كياروستمي نفسه عن السرد الكلاسيكي، فهو لا يسعى لتقديم النتائج أو الحلول المعتادة، بل يعيد المجهول إلى المركز. مثال ذلك: إدخال التكرار الزمني والسردي (عودة أحمد في "وأين منزل الصديق؟" مرتين إلى نفس الدار) لن يفضي إلى تطور خطي للأحداث، بل يفتح أفقاً جديداً خارج الزمن الروائي الصارم. فالفعل المركزي في الفيلم لا يتحقق عبر تبادل بسيط للدفتر بين الطفلين، بل في الفشل، في التردد، في اللا ــ حدث الذي يصبح هو الحدث نفسه. هنا، تفقد الصورة السينمائية وظيفتها الإشارية التقليدية ("هنا منزل الصديق") لتصبح شأناً دلالياً أعمق.
يستحضر التحليل المقارن بين السينما وفن النحت أو الرسم كما عند دافنشي، وفرويد في بدايات علاجه النفسي، فكرة "فن الحذف" مقابل "فن الإضافة": الرواية أو الرسم يضيفان طبقات فوق السطح، أما الحذف فهو الكشف التدريجي عن الشكل الكامن في الكتلة. كياروستمي، إذاً، كما يحلل الباحثون والفلاسفة، يمارس فن الكشف السلبي: لا يفضح ما هو خفي بشكل مباشر، بل يخلق فراغاً، يجعل الغائب محسوساً، حتى تصبح الصورة مجازاً للوعي واللاوعي معاً، تماماً كما أن اللاشعور في التحليل النفسي ليس شيئاً يمكن تعريته، بل يجب احترام كونه "مختفياً" وجعله حاضراً بغيابه ذاته.
سينما الحذف عند كياروستمي، وفق ما ورد في مجلة MIT Press Reader في تحليلها النقدي، ليست سينما نقص وفراغ، بل سينما فيض، غنية بالاحتمالات، تتيح للعالم أن يشرق في تفاصيله الصغيرة ويكشف عن عظمته عبر العابر واليومي. بهذا، تتحول قصصه من أحداث صغيرة إلى تأملات كونية، وتصبح اللغة البصرية قادرة على إضاءة ما لا يُقال، دائمة البحث عن جوهر الإنسان والعالم خارج حدود السرد والحوار.
هكذا، فإن كياروستمي لا يقدّم صورة واقعية مألوفة أو يكرر مأساة الإنسان المعاصر، بل يصنع سينما "الحذف" التي تُبقي اللا ــ مرئي قائماً في قلب المرئي، وتمنح للوجود معنى يتجدد مع كل نظرة متأملة، محولاً كل فيلم إلى رحلة وجودية يندر أن تثمر عنها سينما أخرى.