11/25/2025

البيت الأبيض يرحب بجهادي سابق

غادر الرئيس السوري أحمد الشرع واشنطن بعد ثلاثة أيام من اللقاءات المكثفة في العاصمة، تاركا تساؤلات حول ما إذا كانت زيارته بداية انفتاح فعلي أم مجرد اختبار نوايا.

يتوج لقاء الشرع بالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من يقارب عاما من التحولات في سياسة واشنطن تجاه دمشق والشرع نفسه، مع رفع مجلس الأمن بعض العقوبات عن سوريا وتخفيف إدارة ترامب قيود “قانون قيصر” لمدة 180 يوما.

الرئيس السوري أحمد الشرع مع الرئيس دونالد ترامب خلال زيارته للبيت الأبيض – “تروث سوشال”

رصدنا زيارة الشرع، وهذه أبرز ملفاتها: العقوبات، التعاون الأمني، العلاقة مع إسرائيل، والانفتاح على إدارة ترامب.

“قيصر.. مفترق طرق”

الشرع في الأمم المتحدة يدوّن على ورقة صغيرة عبارة “قيصر.. مفترق طرق”. تصوير: عزت وجدي.

شكَّلت مسألة العقوبات الأميركية على سوريا محورا رئيسيا في زيارة الشرع إلى واشنطن. فمنذ توليه السلطة بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد، يسعى الرئيس السوري إلى إنهاء العزلة الدولية المفروضة على بلاده وإزالة القيود الاقتصادية الخانقة.

 خلال اجتماعه مع ترامب في البيت الأبيض، تركزت المباحثات على قانون قيصر الذي فرض عقوبات واسعة على دمشق بسبب انتهاكات حقوق الإنسان إبان حقبة الأسد. 

ورغم أن ترامب علَّق تنفيذ بعض تلك العقوبات في مايو الماضي، فإن رفعها بشكل دائم يتطلب موافقة الكونغرس.

وقد أعلنت وزارة الخزانة الأميركية بالتزامن مع لقاء الشرع بترامب تمديد تعليق تنفيذ عقوبات قانون قيصر لمدة 180 يوما إضافية، في خطوة عُدّت دليلا على التزام إدارة ترامب بتخفيف الضغط الاقتصادي على سوريا مؤقتا.

يأمل الشرع أن تُفضي هذه الانفراجة إلى إلغاء كامل للعقوبات الأميركية. وقد أكّد البيت الأبيض أن ترامب ماضٍ في وعده بمنح سوريا “فرصة للعظمة” لكن الأمر الآن بيد السلطة التشريعية في واشنطن.

وفي الكونغرس الآراء متباينة: أحدها ينادي بإنهاء العقوبات دون أي شروط مسبقة، وآخر يشترط مراجعة دورية لأي رفع للعقوبات. ويحذّر ناشطون سوريون من أن أي رفع مشروط سيُبقي المستثمرين مترددين في دخول السوق السورية خشية تغيير القرار مستقبلا.

وقد دعا عدد من أبرز أعضاء الكونغرس، خلال لقائهم مع الشرع في 11 نوفمبر، إلى إلغاء قانون قيصر، حتى بعض حلفاء ترامب الجمهوريين أبدوا استعدادهم لمناقشة تخفيف العقوبات، خصوصا إذا دفع ترمب بهذا الاتجاه.

يقول جيمس جيفري، نائب مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، الزميل في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى لـ”الحرة”، إن إدارة ترمب “تدفع بجدية نحو إنهاء العمل بقانون قيصر الذي يعيق تعافي الاقتصاد السوري، لكنها لم ترفع بعد تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب”.

وأضاف أن “تردد الإدارة في هذه الخطوة يضعف موقفها أمام الكونغرس في مساعيها لتخفيف العقوبات”.

في الوقت نفسه، تبرز الحاجة الملحّة إلى تدفق الاستثمارات لإعادة إعمار ما دمرته الحرب في سوريا. فبحسب البنك الدولي، قد تتجاوز كلفة إعادة البناء 200 مليار دولار، ولن تبدأ عجلة الإعمار فعليا ما لم تُرفع أبرز العقوبات الأميركية حيث يعيش نحو 90% من السوريين تحت خط الفقر بعد 14 عاما من الحرب، ما يجعل تخفيف العقوبات شرطا أساسيا لإنعاش الاقتصاد.

باختصار، بات يُنظر إلى تخفيف العقوبات بوصفه مفتاحا لمرحلة التعافي الاقتصادي في سوريا، شريطة أن يترافق مع ضمانات سياسية حقيقية للتغيير والإصلاح مثل ضمان سلامة جميع الطوائف السورية، والتواصل البنّاء مع جيرانها، بما في ذلك إسرائيل.

العلاقة مع إسرائيل

مثّلت الزيارة منعطفا في ملف العلاقات السورية الإسرائيلية الذي طالما اتّسم بالتوتر. فمنذ سقوط نظام الأسد أواخر العام الماضي، صعّدت إسرائيل عملياتها العسكرية داخل سوريا بصورة ملحوظة، عبر غارات جوية متكررة طالت منشآت عسكرية ومؤسسات حكومية سورية، وتوغلت قواتها البرية في جنوب سوريا إلى ما وراء حدود مرتفعات الجولان. 

تبرّر تل أبيب هذه التحركات بأنها إجراءات وقائية لحماية نفسها من “الخطر” الذي تعتقد أن القيادة السورية الجديدة تشكّله، و”لحماية الأقلية الدرزية في تلك المناطق”.

دمشق بعد غارات إسرائيلية استهدفت وزارة الدفاع السورية، 16 يوليو/تموز 2025

الشرع من جانبه حاول منذ البداية نزع فتيل التوتر مع إسرائيل. فقد أكد مرارا أن سوريا الجديدة لن تشكل تهديدا لإسرائيل، وبادرت حكومته إلى اعتقال قياديين في حركة “الجهاد الإسلامي” الفلسطينية داخل الأراضي السورية كبادرة حسن نيّة. 

مع ذلك، لم تُثمر تلك الخطوات عن تهدئة فورية، إذ واصلت إسرائيل ضرباتها العسكرية داخل الأراضي السورية. وردا على استمرار الغارات، طرحت دمشق فكرة إبرام اتفاق أمني مع إسرائيل يضمن انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق التي توغلت فيها عقب سقوط نظام الأسد. ويأمل المسؤولون السوريون في التوصل إلى ترتيب أمني شبيه باتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974، بما يؤمّن الحدود ويعيد لسوريا السيطرة الكاملة على أراضيها.

في واشنطن، كشف الرئيس ترامب أنه يعمل مع الحكومة الإسرائيلية على تحسين العلاقات مع دمشق، قائلا للصحفيين:  “بإمكانكم توقع بعض الإعلانات بشأن سوريا قريبا”.

ويشير تحليل صادر عن مركز أتلانتيك كاونسل إلى أن تحسين العلاقات السورية-الإسرائيلية بات من الأهداف المعلنة للإدارة الأميركية، التي ترى على المدى البعيد إمكانية إدماج سوريا ضمن منظومة اتفاقات إبراهيم التي أرست التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية.

وأكد هذا التوجّه جيمس جيفري، قائلاً إن “الإدارة الأميركية تعتبر أن استقرار سوريا لا يمكن أن يتحقق من دون ترتيب أمني مع إسرائيل يضع حداً للتهديدات على الحدود الشمالية ويمنع عودة النفوذ الإيراني”.

ويدرك الشرع بدوره هذه المعادلة، غير أن الطريق ما زال طويلاً أمام أي اختراق حقيقي في ظل انعدام الثقة المتبادلة وإرث الصراع الطويل.

 وفي زيارته، قال الشرع في مقابلة مع قناة فوكس نيوز: “لن ندخل في مفاوضات مع إسرائيل الآن، طالما بقيت إسرائيل تحتل أراضي سورية.” لكنه لم يُغلق الباب تماما، وأضاف: “ربما تساعدنا الولايات المتحدة وإدارة الرئيس ترمب في الوصول إلى هذا النوع من المفاوضات في المستقبل”.

الشرع مع برايان ماست 

ويسعى الشرع أيضا إلى كسب تأييد دوائر أميركية مؤثرة، لا سيما تلك المتعاطفة مع إسرائيل. فقد التقى في العاصمة بالنائب الجمهوري برايان ماست، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، وبحث معه سبل “بناء مستقبل لسوريا خالٍ من الحرب وداعش والتطرف”.

ورغم أن ماست ما زال متحفظا حيال رفع العقوبات عن دمشق، فإن مجرد اللقاء يُعدّ دليلاً على جهود الشرع لطمأنة أصوات نافذة في واشنطن بأن سوريا الجديدة لا تسعى إلى معاداة إسرائيل.

وفي خطوة رمزية لافتة، التقى الشرع الحاخام يوسف حمرا وعددا من ممثلي “مؤسسة التراث اليهودي” في واشنطن.

الرئيس السوري أحمد الشرع خلال لقائه النائب الجمهوري برايان ماست – مواقع التواصل

داعش والتعاون في مكافحة الإرهاب

أتت الزيارة أيضا بثمار تاريخية على صعيد مكافحة الإرهاب: إعلان انضمام سوريا رسميا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة (داعش) بقيادة الولايات المتحدة.

وقال وزير الإعلام السوري في منشور على منصة “أكس” إن دمشق أصبحت جزءا من تعاون سياسي مع التحالف الدولي ضد داعش. وفي موازاة ذلك، نقلت وول ستريت جورنال عن مسؤول أميركي أن سوريا ستصبح العضو الـ90 في التحالف، وإن الولايات المتحدة ستسمح باستئناف عمل السفارة السورية في واشنطن للتنسيق الأمني والاقتصادي.

 ورحّب ترامب بهذه الخطوة التي تنقل سوريا من دولة منبوذة إلى شريك في مكافحة الإرهاب، معتبرا أنها دليل على دخول دمشق حقبة جديدة من التعاون مع المجتمع الدولي بعد سنوات العزلة.

على الأرض، لم يكن هذا التعاون وليد اللحظة؛ فالقوات السورية الجديدة بمشاركة فصائل معارضة سابقة وقوات قسد الكردية تخوض معارك ضد داعش منذ أشهر جنبا إلى جنب مع الجهود الأميركية. لكن الانضمام الرسمي للتحالف يضفي طابعا مؤسسيا على هذه الشراكة الناشئة.

وفي حديثه مع “الحرة”، قال جيمس جيفري إنّ “سوريا تمضي نحو انخراطٍ تدريجي في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، مع دور سياسي مبدئي لكن بتعاون ميداني متزايد مع القيادة المركزية الأميركية.” وأوضح أن “القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) تعمل على بناء منظومة ثلاثية تشمل التدريب المشترك وتبادل المعلومات الاستخباراتية وربما لاحقاً عمليات منسقة داخل الأراضي السورية.”

 وقد تزامن لقاء الشرع وترامب مع كشف معلومات عن إحباط مخططين منفصلين لاغتيال الشرع دبّرتهما خلايا تابعة لداعش، وأُحبطا خلال الأشهر القليلة الماضية.

 في الأيام التي سبقت الزيارة وحسب وكالة سانا السورية، شنّت وزارة الداخلية السورية حملة واسعة ضد الخلايا النائمة للتنظيم، اعتقلت فيها أكثر من 70 مشتبها في أنحاء البلاد.

صور نشرتها وكالة سانا الرسمية لعملية أمنية ضد خلايا تنظيم داعش.

من جهته، حرص الشرع على طمأنة الأميركيين بشأن ماضيه الجهادي وعزم حكومته القضاء على الإرهاب.  فقبل أيام من اللقاء، رفعت واشنطن رسميا اسم الشرع من قوائم الإرهابيين الدوليين لديها، في تحول يعني أن واشنطن باتت تنظر إليه الآن كشريك أمني لا كعدو. 

وأشاد ترامب عقب الاجتماع بجهود الشرع ضد داعش، قائلا للصحفيين: “سنفعل كل ما بوسعنا لجعل سوريا ناجحة”، وأعرب عن ثقته بقدرة الرئيس السوري على “إنجاز المهمة” في دحر فلول التنظيم.

تطور العلاقة مع ترامب

لم يكن استقبال الشرع في البيت الأبيض حدثا عاديا، بل تتويجا لتحوّل دراماتيكي في مقاربة واشنطن تجاه سوريا الجديدة. فهي المرة الأولى التي يستقبل فيها رئيس أميركي رئيسا لسوريا منذ استقلالها عام 1946.

ورغم رمزية الحدث، جاء الاستقبال محدود التغطية؛ إذ دخل الشرع من باب جانبي بعيد عن عدسات الإعلام، ولم تُعقد مراسم رسمية أو مؤتمر صحفي مشترك. واعتبر مراقبون أن هذا الأسلوب يعكس حساسية الزيارة داخل واشنطن، في ظل الجدل حول ماضي الشرع وموقعه في المشهد السوري.

الشرع وترامب خلال زيارة الأخير للبيت الأبيض. نشرها حساب ترامب على منصة “تروث سوشال”

مع ذلك، أظهرت التصريحات العلنية عقب اللقاء تقاربا شخصيا لافتا بين ترمب وضيفه السوري. فقد وصف ترامب الشرع بأنه “قائد قوي”، مؤكدا ثقته بقدرته على “قيادة بلاده نحو النجاح”، قبل أن يضيف: “لقد مررنا جميعا بماضٍ صعب”. هذه اللهجة الودية تبدو أنها امتداد للانطباع الإيجابي الذي عبّر عنه ترامب بخصوص الشرع في لقائهما الأول قبل ستة أشهر في الرياض.

وبرّر البيت الأبيض اللقاء بأنه جزء من “الجهود الدبلوماسية للرئيس في التواصل مع جميع الأطراف الساعية إلى السلام”.. ورغم الانتقادات الداخلية التي اعتبرت اللقاء “مجازفة سياسية”، دافع ترمب عن قراره قائلا: “عليّ أن أتعامل مع الرئاسة بوصفها شأنا عالميا. يمكن أن تشتعل الحروب في أي مكان وتمتد نيرانها إلى شواطئنا بسهولة”.

الخلاصة.. ماذا بعد؟

مع مغادرة الشرع واشنطن، يبقى ما تحقق في الزيارة أشبه بخريطة طريق أولية أكثر منه اختراقا حاسما.

 فعلى مستوى العقوبات، الكرة الآن في ملعب الكونغرس الذي سيقرر مصير قانون قيصر بين التجديد أو التخفيف المشروط أو الإلغاء الجزئي، تبعاً لمدى التزام دمشق بالتعهدات الجديدة. وفي الملف الأمني، تتجه الأنظار إلى تثبيت إطار تعاون ضد تنظيم داعش يقوم على تبادل المعلومات وفكّ الاشتباك الميداني، مع احتمال مناقشة خفض مدروس للقوات الأميركية مستقبلاً.

 أما في الداخل السوري، فالمطلوب خطوات ملموسة تبدأ بدمج قوات “قسد”، وضبط الفصائل المحلية، والتقدّم في ملفات المعتقلين وتهريب الكبتاغون لبناء الثقة.

 إقليمياً، تُطرح تهدئة جنوبية مع إسرائيل من خلال ترتيبات أمنية تمهيدية لا تصل بعد إلى مفاوضات نهائية. وعلى الصعيد الاقتصادي، يُنتظر استئناف عمل البعثة السورية في واشنطن وإصدار إرشادات واضحة للمصارف الأميركية تمهيداً لفتح شقّ استثماري أولي إذ من دون ذلك سيبقى التعافي السوري مؤجلاً، مهما بلغت حرارة اللقاءات الدبلوماسية.