11/26/2025

تركيا: تهديد في إسرائيل… شريك في واشنطن؟

تتغير المعادلات بصمت، لكن شيئا ما يطبخ على نارٍ هادئة بين أنقرة وتل أبيب والقاهرة.
مسؤولون أميركيون يقولون إن تركيا ساهمت في إنهاء حرب غزة أكثر مما هو معلن، بينما تصفها تقارير إسرائيلية بأنها التهديد الأخطر على أمن إسرائيل بعد إيران.
وفي الوقت نفسه، يتحدث أردوغان إلى ترامب مباشرة، ويعيد فتح قنواته مع مصر، ويتحرك في سوريا بخطوات محسوبة.

ما الذي تريده أنقرة فعلا؟ هل تحاول إعادة صياغة التوازن في الشرق الأوسط، أم تلعب لعبة أكبر مع واشنطن نفسها؟

ضيفنا في هذه الحلقة ضمن The Diplomat  يعرف دهاليز القرار التركي عن قرب: سونر شاغاپتاي، مدير برنامج  الأبحاث التركية في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى.

إليكم الحوار كاملا:

لنبدأ من حدث لم يأخذ ما يكفي من الاهتمام. في 12 نوفمبر، عقدت تركيا ومصر اجتماعا في أنقرة، هو الأول منذ سنوات، وتناول غزة والقوة الدولية المقترحة لإعادة الإعمار وحتى خطوط التنسيق الأمني. ما الذي تغيّر بين أردوغان والسيسي؟ هل هو تقارب تكتيكي بسبب الظرف الإقليمي، أم بداية اصطفاف جديد؟

القصة تعود إلى لحظة الإطاحة بمحمد مرسي، عندما وصف أردوغان السيسي بالديكتاتور، وهدد بأخذ القضية إلى مجلس الأمن. انهارت العلاقات بين الجانبين تماما. لعقدٍ كامل لم تكن هناك زيارات ولا سفراء، لكن العلاقات الاقتصادية بقيت قائمة لأن شركات تركية كانت قد انتقلت إلى مصر. الآن البلدان يخرجان من “العصر الجليدي”. إذا جلست في القاهرة اليوم، سترى تركيا في كل الاتجاهات: في السودان، في غزة، في ليبيا. لا يمكن لمصر أن تضع استراتيجيتها دون أخذ تركيا في الحسبان. ما حصل أخيرا هو كيمياء شخصية بين الرئيسين. السيسي استقبل أردوغان في المطار بنفسه، وهذه لحظة رمزية كبيرة.

لكن الخلاف حول جماعة الإخوان ظل لسنوات عائقاً بين الطرفين. هل تجاوزاه فعلاً؟

جزئياً نعم. أنقرة طلبت من قنوات الإخوان التوقف عن البث السياسي. لم تطردهم، لكنها أوقفت نشاطهم. اليوم تلك القنوات تبث أفلاماً وثائقية عن الطبيعة بدلاً من البرامج السياسية. كما أن القاهرة راقبت بارتياح تراجع الدعم التركي لحماس. بعد هجمات 7 أكتوبر، أدركت مصر أن تركيا وحدها تستطيع إقناع حماس بالجلوس إلى طاولة التفاوض، وهذا ما حدث فعلاً. قطر لم تنجح، أما تركيا فاستخدمت نفوذها وضمنت أمن قيادات الحركة مقابل المشاركة. بالنسبة لمصر، هذا ليس وضعاً مثالياً لكنه عملي. مصر وتركيا اليوم تتعاونان في ملفات أخرى أيضاً، من السودان إلى ليبيا.

إسرائيل لا تنظر بارتياح إلى هذا الدور التركي. لماذا القلق؟

لأن إسرائيل ترى تركيا في كل مكان. تركيا موجودة في سوريا، في غزة، وفي المتوسط. أنقرة أصبحت قوة جوار مباشرة لإسرائيل شمالاً. من منظور إسرائيلي، هذا يعني عودة “التهديد العثماني” برؤية جديدة. لكن الحقيقة أن دوافع تركيا مختلفة: هي تريد استقرار سوريا لتعيد جزءاً من الأربع ملايين لاجئ الموجودين لديها. الاقتصاد التركي لا يحتمل العبء، وأردوغان يحتاج هذا الاستقرار قبل انتخابات 2027 أو 2028.

لكن هناك مثلث معقد: ترامب، أردوغان، ونتنياهو. كيف يعمل هذا المثلث فعلاً؟

العلاقة غير متوازنة. ترامب هو الخيط الذي يربط بين أردوغان ونتنياهو لأن الاثنين لا يطيقان بعضهما. ترامب يريد تهدئة بين حليفين لواشنطن، وفعلاً فرض نوعاً من التوازن: منع تركيا من إرسال قوات إلى غزة، ومنع إسرائيل من توسيع ضرباتها في سوريا. كأنه رسم حدوداً جديدة: غزة لإسرائيل، وسوريا لتركيا. هذا الوضع الهش يخدمه في الوقت الراهن.

سمعنا عن نية تركية للمشاركة في القوة الدولية لغزة، لكن إسرائيل ترفض وجود أي جندي تركي. هل هناك فعلاً نية تركية لذلك؟

أستبعد تماماً أن تشارك تركيا عسكرياً في غزة. ستشارك عبر مؤسساتها المدنية والإغاثية فقط. وجود قوات تركية سيعقّد الأمور. تخيّل لو وقع اشتباك بين جندي تركي وجندي إسرائيلي. لا أحد يريد هذا السيناريو.

لكن أنقرة تريد أن تكون جزءاً من المعادلة السياسية.

صحيح. تركيا تريد فرض حل الدولتين الآن وليس لاحقاً. وهي تستخدم انخراطها في غزة لبناء هذا المسار، مع دعم مصري وقطري وسعودي أيضاً.

ما الذي يقلق إسرائيل أكثر في هذا الدور، حتى لو لم يكن عسكرياً؟

تل أبيب ترى أن تركيا دخلت فعلاً ضمن عقيدتها الأمنية كتهديد محتمل. هذا مبالغ فيه. تركيا ليست إيران. إيران تسعى لتدمير إسرائيل. تركيا اعترفت بإسرائيل عام 1949. قد تختلف معها، لكنها لا تسعى لمحْوها. الخطر في نظر الإسرائيليين هو النفوذ، لا النية.

ومع ذلك لا نرى حديثاً جدياً عن “تطبيع” جديد بين إسرائيل وتركيا، رغم استمرار التجارة بينهما.

العلاقة موجودة، لكنها في حالة أزمة دائمة. لا انهيار ولا دفء. القيادتان لا تثقان ببعضهما، والشعوب متوترة، لكن التجارة مستمرة. في 2010، بعد حادثة “مرمرة”، ظن الجميع أن العلاقات انتهت، لكن التجارة ارتفعت في العام التالي. هناك مصالح اقتصادية عميقة تشكل صمام أمان يمنع القطيعة.

ما الهدف الحقيقي من كل هذا الانخراط؟ هل تسعى تركيا إلى توسيع نفوذها الإقليمي، أم لتثبيت استقرار حدودها فقط؟

الهدف الأساسي هو الاستقرار جنوب حدودها. منذ حرب العراق ثم سوريا، تركيا محاطة بفوضى. تريد حدوداً آمنة وشركاء مستقرين، لأن الفوضى أنتجت تهديدات عابرة مثل داعش واللاجئين. في الوقت نفسه، كل خطوة في الشرق الأوسط تخدم صورتها لدى واشنطن: تركيا تقوم بالمهمة التي لا تريد أميركا القيام بها.

البعض يرى هذه السياسة متعددة الاتجاهات كقوة، والبعض يراها مبالغة. هل هي دبلوماسية ذكية أم إفراط في الحركة؟

إنها دبلوماسية فوق الطاقة. تركيا تشتغل في كل الاتجاهات: الشرق الأوسط، روسيا، إفريقيا، أوكرانيا. هي دولة “تضرب فوق وزنها”. تحت أردوغان، تحولت من سياسة أوروبية بحتة إلى سياسة متعددة المراكز: أوروبية، شرق أوسطية، أوراسية. هذا يجعلها لاعباً محورياً وصعباً في الوقت نفسه.

ومتى تفشل هذه المقاربة؟ ما النقطة التي قد تجبر أنقرة على التراجع؟

الفشل سيكون في حال عادت سوريا إلى الفوضى. لأن انهيار سوريا مجدداً يعني انهيار كل الرهان التركي على الاستقرار. سيُفتح الباب أمام عودة داعش، وانهيار التفاهم مع الأكراد، وتوتر داخلي جديد. لهذا، أنقرة تعتبر استقرار سوريا اليوم مسألة أمن قومي.

أخيراً، ما الشيء الذي يستخف به المراقبون في واشنطن عندما يتحدثون عن تركيا؟

يستخفون بقوة مؤسساتها. تركيا لا تنهار أبداً، لأنها دولة تملك مؤسسات عمرها مئات السنين. مهما دخلت أزمات، تخرج منها لأنها لا تُدار فقط بالرئيس أو الحزب، بل بجهاز بيروقراطي متجذر. وهذا ما يجعلها لاعباً عنيداً ومستقراً في وقت واحد.