لافتة الميلاد الحمراء تلمع، الأجراس تقرع، وبدلاً من فريق التصوير الضخم خلف الكاميرا، ثمة خادمٌ سحابي يدور بهدوء في غرفة باردة. كوكاكولا تعود هذا العام بإعلان عيد ميلاد مُولّد بالكامل بالذكاء الاصطناعي. ليست هذه مفاجأة بقدر ما هي إشارة زمنية: لقد عبرت العلامة التجارية الأكثر أيقونية في تاريخ الإعلانات جسر الذكاء الاصطناعي، وباتت تقيم على الضفة الأخرى بثقة.
ما الذي يعنيه أن تتخلى إمبراطورية تسويق ككوكاكولا عن التقليد لصالح توليدٍ آلي؟ للوهلة الأولى، يبدو الجواب اقتصادياً: سرعةٌ مذهلة، تكاليفُ أقل، ومرونةٌ لا نهائية في اختبار النسخ والصيغ والزوايا. الإبداع الذي كان يتطلب أسابيع من العصف الذهني وتجارِب الطاولة بات يُستدعى خلال ساعات، و"الحلول الوسط" التي كانت تُملِيها الجداول والميزانيات حلّت محلها نسخٌ لا تُحصى يمكن غربلتها بلمح البصر. لكن ما يحدث يتجاوز الحساب البارد للزمن والمال. نحن أمام إعادة تعريف لِماهيّة الإعلان نفسه: من عملٍ فني صاغته فرق بشرية إلى مخرجاتٍ احتمالية تُنقّحها خوارزميات مدرّبة على بقايا الثقافة ذاتها التي صنعت الإعلانات العظيمة.
هنا تكمن المفارقة: الذكاء الاصطناعي يقتات على إرثٍ بشري طويل من الحِرفية والذائقة والرموز. حين يُنتج إعلان الميلاد، فهو يستدعي كل نظرة دهشةٍ في عيون الأطفال. هو ينسخ الذاكرة الجمعية ويعيد تركيبها بلمسة سحرٍ بلا يدين. فهل يكفي ذلك لصناعة الدهشة؟ نعم، غالباً. وهل يكفي لاستدامتها؟ هذا سؤالٌ أصعب.
صناعة الإبداع تشعر اليوم بضغطٍ خانق، ليس لأن الشركات "تستبدل" البشر بالآلات فحسب، بل لأن معيار السرعة والكلفة صار المعيار الأول، ومعه تُختزل المخاطرة الفنية. الخوارزميات، بحكم طبيعتها، تميل إلى "المتوسط" الجميل: ما يحبه الجميع بدرجةٍ كافية، وما يزعج أقلّ عدد ممكن. لكنها لا تُخاطر، لا تشكّك بالذات، ولا تتعمّد الفشل من أجل اكتشاف أسلوبٍ جديد. الإعلان الكبير في التاريخ كان غالباً نتيجة مقامرةٍ ما، انحياز لجرأةٍ شخصية أو لحدسٍ لا دليل عليه. هل تعرف الآلة كيف تعاند البيانات في اللحظة المناسبة؟ حتى الآن، نادراً.
ومع ذلك، ليس من الإنصاف تصوير ما يحدث كقصّة موتٍ رومانسي للفنانين. الأرجح أننا نشهد تحوّلاً في تقسيم العمل: ستنتقل القيمة من التنفيذ إلى المعنى، ومن الإنتاج إلى التحرير. سيغدو "الكاتب" مخرج معنى، يمسك المقود الأخلاقي والجمالي، ويستغل المولّدات كآلات موسيقية ضخمة. من يعرف الحكاية الأعمق؟ من يضبط الإيقاع كي لا يتحول الإعلان إلى كولاجِ ذكريات بلا روح؟ هؤلاء لن يفقدوا دورهم، بل سيغدو دورهم أصعب وأهم: أقلّ عدداً، أعلى مهارة، أشدّ مساءلة.
على الجانب الآخر، ثمة مخاطر لا يجوز تجميلها. أولها خطر التماثل: إذا تشابهت نماذج التدريب وتشابهت أهداف الشركات، سنحصل على موجةٍ من الإعلانات المتقنة والمملة في آن. ثانيها خطر الأصالة: متى يصبح "النوستالجيا المُولّدة" استغلالاً آلياً لعواطفنا؟ وثالثها الشفافية والحقوق: من يملك الأسلوب حين يصبح الأسلوب متوسطاً إحصائياً لملايين الأعمال؟ العلامات الكبرى ستحتاج إلى أخلاقيات إنتاج جديدة، لا لذرّ الرماد في العيون، بل لأن الثقة علامةٌ تجارية بحد ذاتها.
لماذا تخاطر كوكاكولا؟ لأنها تفهم طبيعة اللعبة: الرمزية قبل التقنية. إذا نجح الإعلان في لمس فكرةٍ بسيطة—الدفء، المشاركة، لحظةُ لقاءٍ وسط برد العالم—فلن يسأل أحد إن كانت الجملة كتبتها يدٌ بشرية أم خوارزمية. الناس يكافئون الشعور لا الأدوات. لكن هذا النجاح قصير الأمد إذا تحوّل إلى وصفة. الشعور الحقيقي لا يُستخرج بالنسخ وحده؛ يحتاج إلى تجربة بشرية تُغذّي القالب.
لصُنّاع الإبداع، ليس الحل في الإنكار ولا في الاستسلام، بل في إعادة التموضع:
-
امتلكوا الفكرة لا الأداة. الفكرة التي لا تُختصر بموجهٍ نصي ستنجو.
-
اجعلوا الذكاء الاصطناعي يشتغل لأجلكم لا مكانكم: توليدٌ واسع، انتقاءٌ صارم، وتوقيعٌ أسلوبي واضح.
-
تبنّوا مقاييس نجاح تتجاوز النقرات: أثرٌ ثقافي، حديثٌ عام، ذاكرةٌ تُستعاد بعد سنوات.
قد تُتقن الآلات كتابة "تراتيل الميلاد" الإعلانية، لكنها لن تعرف برد ديسمبر على أطراف أصابع طفلٍ ينتظر هدية. تلك المسافة الصغيرة بين الصورة والشعور هي مجال الإنسان. وإذا أحسنت العلامات قراءتها، فستجد أن أفضل إعلانٍ بالذكاء الاصطناعي ليس ذاك الذي يُخفي بشره، بل الذي يُبرز إنسانيته: معنىً تُولّده خوارزمية، ويصادِق عليه قلب.

